الصداقة والصديق

أكتوبر 13, 2007

عاطفة سامية القدر، غزيرة الفائدة، تلك هي الصداقة.
والشارع رغب في أن تكون المعاملة بين المسلمين معاملة الصديق للصديق؛ ألا ترونه كيف أمر المسلم بأن يحب لأخيه المسلم ما يحبه لنفسه؟، بل استحب للمسلم أن يؤثر أخاه المسلم وإن كان به حاجة، وذلك أقصى ما يفعله الصديق مع صديقه.
هذا الأدب الإسلامي نبهني لأن أتحدث إليكم في هذه الليلة عن الصداقة:
ما هي الصداقة؟:
المحبة إما أن تكون للمنفعة، وإما أن تكون للذة، وإما أن تكون للفضيلة، وقد يطلق على كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة اسم الصداقة.
صداقة المنفعة:
هي أن يحب الإنسان شخصاً لما يناله منه من منافع، وشأنُ هذه الصداقة أن تبقى معقودة بين الشخصين ما دامت المنافع جارية، فإن انقطعت المنافع انقطعت هذه الصداقة.
صداقة اللذة:
هي المحبة التي تثيرها الشهوة، وقد تشتد فتسمى عشقاً، وشأن هذه الصداقة -أيض- أن تنقطع عندما تنصرف النفس عن اللذة التي بعثتها.
صداقة الفضيلة:
هي المحبة التي يكون باعثُها اعتقادُ كلٍّ من الشخصين أن صاحبه على جانب من كمال النفس، وهذه هي الصداقة التي يهمنا الحديث عنها في هذا المقام.
الصداقة فضيلة:
ليست صداقة المنفعة، ولا صداقة اللذة بمعدودة في خصال الشرف، وإنما الذي يصح أن يعد خصلة شريفة هو الصداقة التي يبعثها في نفسك مجردُ اعتقادِ أن صاحبك يتحلى بخلق كريم.
وهذه الصداقة تشبه سائر الفضائل في رسوخها في النفس، وإيتائها ثمراً طيباً في كل حين، وهي التي توجد من الجبان شجاعة، ومن البخيل سخاءًا؛ فالجبان قد تدفعه قوة الصداقة إلى أن يخوض في خطر؛ ليحمي صديقه من نكبة، والبخيل قد تدفعه قوة الصداقة إلى أن يبذل جانباً من ماله لإنقاذ صديقه من شدة؛ فالصداقة المتينة لا تحل في نفس إلا هذبت أخلاقها الذميمة؛ فالمتكبر تنزل به الصداقة إلى أن يتواضع لأصدقائه، وسريع الغضب تضع الصداقة في نفسه شيئاً من كظم الغيظ، ويجلس لأصدقائه في حلم وأناة، وربما اعتاد التواضع والحلم، فيصير بعدُ متواضعاً حليماً.
والفضل في خروجه من رذيلتي الكبر وطيش الغضب عائد إلى الصداقة.
وإن شئت فقل: إن حب الشخص لك لفضيلتك علامة على كمال أصل خلقه؛ فإنك لا ترجو من شخص أن يحبك لفضيلتك إلا أن يكون صاحب فضيلة.
وليس يعرف لي فضلي ولا أدبي * إلا امرؤ كان ذا فضل وذا أدب
الداعي إلى اتخاذ الأصدقاء:
في اتخاذِ صديقٍ حميمٍ لذةٌ روحية يدركها من يَسَّر الله له أن انعقدت بينه وبين رجل من ذوي الأخلاق النبيلة، والآداب العالية مودة، ولا منشأ لهذه اللذة الروحية إلا الشعور بما بينه وبين ذلك الرجل النبيل المهذب من صداقة.
وصديق الفضيلة هو الذي يجد في لقاء صديقه ارتياحاً وابتهاجاً، ويعد الوقت الذي يقضيه في الأنس به من أطيب الأوقات التي لا تسمح بها الأيام إلا قليلاً.
ثم إن الصداقةوإن قامت على أساس الفضيلة، ولم يكن للمنفعة أثر في تكوين رابطتهاتستدعي بطبيعتها جلب المنفعة أو دفع الضرر؛ فإنها تبعث الصديق على أن يدفع عن صديقه الأذى بما عنده من قوة، وتهزه لأن يسعده في الشدائد بما أوتي من جاه أو سطوة.
ولمثل هذا أوصى بعض الحكماء باتخاذ الأصدقاء فقال: “أعجز الناس من فرط في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم “.
وقال الشاعر الحكيم:
لعمرك ما مال الفتى بذخيرة * ولكن إخوان الثقات الذخائر
الاستكثار من الأصدقاء:
متى حظي الإنسان بأصدقاء كثيرين فقد ساقت له الأقدار خيراً كثيراً، ففي الصداقة ابتهاج القلب عند لقاء الصديق، وفيها لذة روحية ولو في حال غيبة الصديق، وفيها عون على تخفيف مصائب الحياة.
وكذلك أوصى بعض الحكماء ابنه فقال: “يا بني إذا دخلت المصر، فاستكثر من الصديق أما العدو فلا يهمنك“.
وقال بعض الأدباء:
ولن تنفك تُحسد أو تُعادى * فأكثر ما استطعت من الصديق
ومبنى هذه النصيحة على أن شأن حساد الرجل وأعدائه تدبير الوسائل للكيد له، وطَرْقُ كلِّ باب يحتمل أن يكون من ورائه ما يشفي صدورهم؛ فإذا ساعده القدر على أن يُكْثِر من الأصدقاء فقد أكثر من الألسنةِ التي تدحض ما يُرمى به من المزاعم، والأيدي التي تساعده على السلامة من الأذى.
علامة الصداقة الفاضلة:
ليس من علامة الصداقة الفاضلة أن يقوم لك الرجل مُبْتَدراً، أو يلاقيك باسماً، أو يثني عليك في وجهك مسهباً ومكرراً؛ فذلك شيء يفعله كثير من الناس مع من يحملون له أشدَّ العداوة والبغضاء، وأصبح كثير منهم يعدونه من الكياسة، ويخادعون به من إذا أسمعوه مدحاً فكأنما سقوه خمراً.
وربما استثقلوا من لم يسلك هذه الشعبة من النفاق، ونسبوه إلى جفاء الطبع، وقلة التدرب على الآداب الجارية في هذا العصر.
وقد ذكر الأدباء للصداقة الخالصة علامات منها أن يدفع عنك وأنت غائب عنه.
قال العتابي:
وليس أخي مَنْ ودَّني رأيَ عينِه * ولكن أخي من صدَّقْتهُ المغائب

ومنها أن تكون مودته في حال استغنائك عنه واحتياجك إليه سواءًا.
قال الأحنف بن قيس: “خير الإخوان من إن استغنيت عنه لم يزدك في المودة، وإن احتجت إليه لم ينقصك منه“.
ومنها أن ينهض لكشف الكربة عنك ما استطاع كشفها، لا يحمله على ذلك إلا الوفاء بعهد الصداقة، قال بعضهم في صديق له:
وكنت إذا الشدائد أرهقتني * يقوم لها وأقعد أو أقوم
والألمعي يَعْرف الصداقة من نظرات العيون، ويحسها في أساليب الخطاب، ويلمحها من وراء أحرف الرسائل:
والنفس تدرك من عيني محدثها * إن كان من حِزْبها أو مِنْ أعَاديها
ومن الْمُثُل العالية للصداقة المتينة صداقة الوزير الوليد بن عبد الرحمن بن غانم للوزير هاشم بن عبدالعزيز.
نقرأ في تاريخ الأندلس أن الوزير هاشماً بعثه السلطان محمد ابن عبدالرحمن الأموي على رأس جيش، فوقع هذا الوزير أسيراً في يد العدو، وجرى ذكره يوماً في مجلس السلطان محمد بن عبدالرحمن، فاستقصره السلطان، ونسبه للطيش والعجلة والاستبداد بالرأي، فلم ينطق أحد الحاضرين في الاعتذار عنه بكلمة، ما عدا صديقه الوليد؛ فإنه قال: “أصلح الله -تعالى- الأمير، إنه لم يكن على هاشم التخير في الأمور، ولا الخروج عن المقدور، بل قد استعمل جهده، واستفرغ نصحه، وقضى حق الإقدام، ولم يكن ملاك النصر بيدهِ، فخذله مَنْ وثق به، ونَكَل عنه من كان معه، فلم يزحزح قدمه عن موطن حفاظه، حتى مُلِكَ مقبلاً غير مدبر، ملبياً غير فشل، فجوزي خيراً عن نفسه وسلطانه؛ فإنه لا طريق للملامة عليه، وليس عليه ما جنته الحرب الغشوم.
وأيضاً فإنه ما قصد أن يجود بنفسه إلا رضاً للأمير، واجتناباً لسخطه، فإذا كان ما اعتمد فيه الرضا جالب التقصير، فذلك معدود في سوء الحظ“.
وقع هذا الاعتذار من السلطان موقع الإعجاب، وشكر للوليد وفاءه لهاشم، وترك تفنيد هاشم، وسعى في تخليصه.
ووصل خبر هذا الاعتذار إلى هاشم، فكتب خطاب شكر للوليد ومما يقول في هذا الخطاب: “الصديق من صدقك في الشدة لا في الرخاء، والأخ من ذب عنك في الغيب لا في المشهد، والوفي من وفى لك إذا خانك زمان

                                              الصداقة والصديق ابو حيان التوحيدي(اضغط هنا)

أضف تعليق